المطالعة الورقية بين الإنهيار والإنتحار
بقلم: أمل عبده الزعبي
كانت سهى من أوائل المطالعة تشارك في كل المسابقات
المدرسية التي تعنى بهذا الفن من فنون العربية.
فقد كانت تعشق
المطالعة، تتنفسها وتحتسيها صباحا ومساءا كما تشرب كوب الحليب مرغمة، كانت تسرق اللحظات لتقرأ كتابا وتختلس النظر
داخل صفحاته خلسة كي لا تراها والدتها وتقول بانها تتهرب من العمل وتزوّغ منه بالقراءة
، لم تكن أمها تعلم أنها متيّمة بالقراءة فهي غذاء روحها.
كانت تنهي عملها في المنزل فتسرع الى أمها لتسمح لها
بالاعتكاف في حجرتها لتقرأ، وتتلذذ
بالقراءة ، القراءة متعتها وهوايتها وحياتها التي لا تحب ان تغير نمطها.
أين ذاك الزمن اليوم!! زمنٌ كانت القراءة فيه تأخذ الجزء
الكبير من حياة الناشئ على الرغم من أنها كانت تصنف ضمن مضيعة الوقت (لكثرة
الانشغال بها) ، ولكننا اليوم نعلم وبكل
يقين أنها ما كانت الا نوعا من الثقافة العميقة التي تترسخ في العقول كما تترسخ
الجذور في الارض .
كنت تروي عقول
الشباب بالغزير من المعرفة والبطولات والثقافات الاجنبية جنبا الى جنب مع الثقافة
العربية المحلية والمجاورة لها ، كنا عندما
نستعير كتابا من مكتبة المدرسة، أو المكتبة
العامة نُعطى فترة الاعارة أسبوعا كاملا ولكن ما كنا نتجاوز اليوم الثاني والكتاب
في حوزتنا لشغفنا ولهفتنا الكبيرة على القراءة ومطالعة كل جديد، حتى المدارس قديما كانت تُعد الطالب ليكون قارئا
متميزا حيث كانت ضمن خططها اشغال حصص الفراغ
(الحصص التي كانت تتغيب فيها المعلمة عن الحضور) بحصة مكتبية تستغلها الادارة بإرسال الطلبة الى المكتبة لقراءة الكتب القيّمة
الموصى بها من معلمات اللغة العربية والمباحث الاخرى لينشأ جيل متعلم ومثقف في ذلك
الوقت..
عندما انهت سهى المرحلة المدرسية والتحقت بالدراسة
الجامعية كانت تستعير من مكتبة الجامعة أو من إحدى الزميلات التي حالفها الحظ وكان
في منزلهم مكتبة تستعير منها الكتب
والروايات لتقرأها في اوقات فراغها في المنزل . كم كانت تتمنى لو تتخرج وتعمل لتشتري
لنفسها كتبا وتكوّن في بيتها المستقبلي مكتبة ليحظى أولادها بما لم تحظ به في بيت
والدها ، مكتبة منزلية ، تتفتح عيونهم عليها
داخل جدران بيتهم ومملكتهم، مكتبة ملكهم الخاص.
وفعلا تابعت
مشوارها الجامعي بتفوق فتخرجت وتزوجت وتوظفت وصار لديها رصيدا من المال خاصا بها لتحقق ما
كان من احلامها فبدأت بتحقيق الحلم، ذلك المشوار
الذي حلمت به طيلة سنوات حياتها، شراء الكتب ومتابعة أخبار معارض الكتب وكل ما له
علاقة بالكتب ، فكانت كلما سمعت اعلان في التلفاز أو من أحدى الصديقات تتوجه لتشترى
كتبا كثيرة من راتب كان يُعتبر قليل في ذلك الوقت ولكن بركته كبيرة.
كانت الوجهة الوحيدة
التي لا يزعجها صرف المال فيها هي شراء
الكتب، وفعلا في أقل من سنة كان لديها مكتبة متواضعة بدأت تحضّرها لأولادها
قبل ولادتهم، ومع توالي السنون كبرت المكتبة وكبر الاولاد بعد أن زرعت فيهم حب
القراءة منذ الصغر، وشوّقتهم للقراءة وللبحث عن كل جديد من القصص وكتب المغامرات،
وكانت قدوتهم فكانت تدعهم ليختار كل فرد منهم كتابه بنفسه وتختار أمامهم كتابا تقرأه
مثلهم .
بقيت عادة القراءة عندها في المنزل في العقد الاول من
سنين حياتها الاسرية عادة متأصلة تعوّد عليها اولادها كما تعودت هي عليها حيث أصبح
من الواجب عليها قبل النوم قراءة كتابا أو أثنين مع ترغيب أولادها وحثهم على
القراءة واختيار كل جديد من مكتبتهم الجميلة .
ثلاثة عقود مضت ونحن الان في الالفية الثالثة ، في عصر
العولمة والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المتعددة ، اليوم وبعد أن كبرت مكتبتها
وتضاعف عدد الكتب فيها؛ تراها ركنا مهملا ومتروكا يعلوه الغبار ثم يُمسح عنه ليعود
ويعلوه من جديد دونما قارئ يستعير منه كتابا أو رواية.
أين مكتبتها التي كوّنتها بأحلامها وإصرارها الكبير ؟
وأين روّادها؟ فقد أنشأت ثلاثة أولاد على حب القراءة واليوم أصبحوا خمسة أولاد
منهم اثنين لم يتعرفوا على مكنونات هذه المكتبة الكبيرة ، فهي أمام مغريات الحياة باتت ضعيفة وغير قادرة
أن تسقى أولادها الصغار من هذا الينبوع العذب الذي طالما نهلنا منه المعرفة
والتسلية والثقافة . اليوم تقف عاجزة أمام جيل الانترنت والثقافة السريعة ولا
تستطيع تحريك ساكن .
لفت انتباهها بالامس أحد ابنائها الصغار في الصف السادس
من جيل الانترنت عندما طلب منها معلومات للتربية الوطنية عن البتراء، فذهبت فرحة
وأحضرت له كتابا عن الاردن والمواقع السياحية فيها, فوجئت بنظرة رمقها بها ابنها
الصغير وقال لها:
لا يا أمي سأبحث عن المعلومة على الانترنت لماذا اقرأ
هذا
الكتاب لأحصل على معلومة صغيرة .
فاجأها جوابه، كانت بالماضي مع إخوته الثلاثة تدعوهم
للقراءة والمطالعة وشحذ المعلومة من الكتاب واليوم أبنائها الصغار يرفضوا مسك
الكتب أو الاطلاع عليها إلا للدراسة ويستعيضوا عنها بالحاسوب والانترنت
والبلاستيشن والالعاب الاكترونية التي أخذت منهم كل الوقت وتركتهم بلا ثقافة ورقية
مرجعية راسخة في العقول كجبال رم الصامدة . حتى أبناءها الثلاثة الكبار هجروا
مكتبتها ولم تعد مقصدهم؛ وباتت كالمنفي في ركن مقصي من الدنيا كلها .
نظرت بعد هذه الرحلة الشاقة في زمن المكتبة التي بنتها
كتابا كتابا، وجدارا جدارا، ماذا عنها
اليوم؟ هذه المكتبة الكبيرة الجميلة ماذا تفعل بها اليوم؟ هذه الكتب والذخيرة التي
كانت ولا تزال حلمها كيف تتصرف بها الان ؟
في يوم من الايام كان جُلّ حلمها ان تمتلك مكتبة تقرأ وتتزود
منها وتجعلها كنزا تضعه بين يدي أولادها ينهلون منها العلم والمعرفة والثقافة متى
شاؤوا. كانت تتخيل انها ستضع الدنيا بين أيديهم عندما أنشأت مكتبة كبيرة وعظيمة
كمكتبتها في منزلها، كل هذا بات حلم ضائع ومبعثر أدراج الرياح كحلمها ان تقتني
مكتبة في بيت أهلها في ذلك الوقت، واليوم أضحى حلمها أن ينظر أبناؤها الى تلك المكتبة
بنظرة حب وعشق كما تنظر هي اليها. ولكن عبثا تحاول؛ عاشت المكتبة في نفسها حلم وسينتهي
بذاكرتها حلم .
اليوم ستعلن حداد الكتب والمكتبات على زوارها، فاليوم
وفي هذا العصر انتحرت الاوراق والكتب ازاء المطالعة الاكترونية على صفحات الفيس
بوك وتويتر والواتساب وكل المواقع الالكترونية الاخرى.
رحم الله يوما كانت المطالعة فيه دليل رقيّ الامم ونهضة
الحضارات، مقارنة مع زمن باتت فيه المطالعة والكتاب دليل تخلف حضاري وتقني غير
متداول أو متعارف عليه بين الناس .
اذا فليعش جيل الانترنت وليفرحوا بثقافتهم المتلونة
بألوان الحداثة والرقي، وليرحم الله كتبها ومكتبتها فلا وجود لها اليوم الا في
خيالها وداخل أسوار نفسها الاسيرة للقراءة
والمطالعة اليوم وكل يوم حتى مدى العمر.
No comments:
Post a Comment