جوري ( الوردة الحمراء ) - الحكاية الثانية لثلاثية قدر النساء
الفصل السابع - بقلمي منى سليمان
* صدفة *
بالمشفى...
ودعت أحلام الجميع ثم مضت برفقة إحدى الممرضات لإجراء مجموعة من الفحوصات قبل بدء الجراحة فجلست جوري تبكي على أحد المقاعد خوفاً من فقدان والدتها... اقتربت منها فاطمة وضمتها إلى صدرها ثم همست في أذنها
- خلي أملك في ربنا كبير
- ونعمة بالله
قالتها جوري ثم ابتعدت عن صدر فاطمة وكفكفت دموعها وخلال دقيقة واحدة أخرجت المصحف من حقيبتها وبدأت تتلو آياته بتدبر فتركت فاطمة مقعدها واقتربت من أدم قائلة
- اتصل شوف عمك وماجدة أتأخروا ليه
- حاضر
ابتعد أدم قليلاً ليتحدث إلى عمه بينما عادت فاطمة لتجلس إلى جرار جوري وبدأت هي الأخرى في تلاوة القرآن عله يزيح الثقل الكائن بداخلها
****
وقفت لمياء عن الدرج وهمت أن تبتعد لكنه لم يسمح بذلك وسبقها بخطوة مانعاً إياها من الصعود فرفعت بصرها إليه ورمقته بنظرة نارية بادلها إياها بابتسامة خفيفة زينت شفتيه فقالت بغيظ
- من فصلك وسع شوية لأني متأخره جداً
- أنا أسف
انطلقت الكلمات من بين شفتيه بطريقة هادئة لم يعتاد عليها من قبل لكنها لم تكن كافية بالنسبة إليها فبدأت تتحدث بطريقة جنونية كتلك التي يمتلكها الأطفال عند الغضب
- لو سمحت يا أستاذ عماد عديني، مفيش حاجة بينا تستدعي الاعتذار أنا اللي غلطانه علشان اتصلت بحضرتك بس على فكرة دي كانت فكرة بنت عمي غير كده مكنتش هتصل، ممكن أعدي بقى؟
- لا مش ممكن، أولاً أنتي مش غلطانه في حاجة بالعكس احترمت جداً تقديرك لوالدك ورغبتك في انتظار إذنه قبل أي خطوة، ثانياً تقدري تتصلي في أي وقت لأن ده شغل وقولتلك قبل كده أنا والدار تحت أمرك، ثالثاً أنا أسف
شعرت لمياء بقليل من الرضا ومع ذلك لم تظهر له ذلك فأرجعت خصلات شعرها خلف إذنها وقالت برقة
- خلاص محصلش حاجة، ممكن أعدي بقى؟
- اه طبعاً ممكن
أفسح لها المجال لتمر إلى جواره ووقف يتابعها بعينيه حتى توقفت بدون سابق إنذار وعادت إليه لتسأله
- هو حضرتك بتعمل إيه هنا؟
- أنا ساكن هنا
جحظت عينيها وأتسع ثغرها في صدمة فابتسم على فعلتها وتابع: وواضح أنك ساكنة هنا، صدفة عجيبة
- فعلاً
- طلعنا جيران
كادت أن تتحدث لكن قاطعها هبوط المصعد فرددت: الحمد لله
اقتربت من المصعد وقامت بضغط الزر فلحق بها عماد ووقف هو الأخر في انتظاره فشعرت بالتوتر دون أن تُظهر ذلك لكنه شعر بتوترها عندما استمع إلى صوت أنفاسها المضطربة، لم تمض سوى لحظات قليلة حتى استقر المصعد بالطابق الخامس فدلفت لمياء ولحق بها عماد متسائلاً
- الدور الكام؟
- العاشر
قالتها بخجل ملحوظ يشبه خجل طفلة لم تتعدى العاشرة فأسر ابتسامته بصعوبة وهتف
- أنا كمان ساكن في الدور العاشر
ضغط زر الطابق العاشر ووقف يراقب الصدمة الظاهرة بوضوح على قسمات وجهها والتزم الصمت حتى لا يزيد غضبها، ولكن كان للقدر كلمة أخرى، توقف المصعد بين الطابق السابع والثامن فشعرت بالخوف ونظرت إليه بأعين ملأها الرعب
- هو وقف ليه؟
- أكيد لسه بيعملوا الصيانة وإحنا استعجلنا
- وبعدين هنفضل محبوسين هنا؟!!
رفع سماعة المصعد وقام بالاتصال على حارس العقار وأخبره بوجودهم بالداخل ثم أنهى المكالمة ونظر إليها قائلاً
- قال هيتصرف
- أنا خايفه أوي وكمان إتأخرت وعندي سيكشن عملي
- هتلحقيه بأمر الله
ساد الصمت بينهما من جديد فاستغل عماد الفرصة التي ظهرت أمامه من العدم وسألها
- لسه زعلانه مني؟
حركت رأسها يميناً ويساراً بالنفي فتابع: أفهم من كده هتطبعي كتابك عندنا ولا غيرتي رأيك؟
قال كلماته بطريقة مازحة فابتسمت وهي توجه نظراتها صوب الأرض ثم استجمعت شجاعتها ورفعت بصرها إليه
- لو بابا وافق يشرفني طبعاً أتعامل مع حضرتك
- ممتاز
تحرك المصعد بدون سابق إنذار وأكمل صعوده إلى الطابق العاشر فخرجت لمياء منه ثم لحق بها عماد وأردف
- تحبي أوصلك الجامعة؟
- ميرسي، السواق منتظر تحت بالعربية هيوصلني ويرجع ياخدني، بعد إذنك
دلفت إلى الشقة ثم ودعته بابتسامة وأغلقت بابها فاتجه صوب شقته وهو يشعر بأمر غريب يدور بداخله، أما هي فظلت واقفة خلف باب الشفة واضعة يدها على قلبها ثم تنفست بعمق ودلفت إلى غرفتها لتأخد النقود وخلال دقائق قليلة غادرت فتابعها عماد بعينيه من خلال شباك غرفته حتى انطلق قائد السيارة، وبمجرد أن اختفت السيارة تماماً ابتعد عن الشباك وجلس على أحد المقاعد وابتسامة ساحرة ترتسم على ثغره سرعان ما اختفت وحل مكانها نظرة مريبة فردد في نفسه
- ما ينفعش
****
في الظهيرة استيقظت سهيلة وهي عازمة النية على إخبار ابنتها قبل أن تعرف بما حدث من خلال الصحافة ووسائل الإعلام الفنية التي ستتناقل الخبر... تركت فراشها والغرفة كذلك ثم ذهبت إلى غرفة ابنتها وجلست إلى جوارها قائلة بصوت هادئ
- فاتن wake up يا عمري
تململت فاتن بكسل ثم وضعت الوسادة فوق رأسها فأزالت فاتن الوسادة وكرر كلماتها بصوت أكثر جدية ما جعل فاتن تعتدل في جلستها والضجر يظهر بوضوح على قسمات وجهها فتابعت والدتها
- صح النوم
- صباح الخير
- فوقي كده علشان عايزاكي في موضوع مهم
- سمعاكي يا مامي، خير؟
- في موضوع كده حابه أبلغك بيه، عارفه أني غلطانه علشان خبيت عليكي بس الموضوع جه بسرعة و
قاطعتها فاتن متسائلة بقلق: في إيه قلقتيني؟
- أنا أتجوزت محسن منصور من شهرين و
توقفت سهيلة عن إكمال كلماتها عندما تبدلت ملامح فاتن وجحظت عينيها من هول الصدمة فقالت بحدة وصوت عال
- What?!!
- أنا عارفه أني غلطانه بس أعمل إيه بحبه
تطاير شرار الغضب من عينيّ فاتن واستعدت لإطلاق سهامها في وجه والدتها، ولكن سبقتها الأخيرة وتابعت بنبرة صوت تحمل الانكسار المصطنع
- هو أنا مش من حقي أحب واتحب وأعيش حياتي زي والدك ولا خلاص أروح أدفن نفسي بالحياة
تساقطت دموعها الأشبه بدموع التماسيح فزفرت فاتن بضيق ثم ربتت على يد والدتها وتحدثت بهدوء
- بعد الشر عنك، أنا بس مش مصدقة أنك خبيتي عني
- حقك عليا وأوعدك مش هخبي عنك حاجة تاني أبداً
- مبروك مامي
- الله يبارك فيكي يا قلبي، عمو محسن قال هيعمل معاكي لقاء قريب أوي
أتسع ثغر فاتن في سعادة فاعتلت الفراش ورددت بسعادة: بجد يا مامي؟
- طبعاً يا قلب مامي
أخذت فاتن تقفز فرحاً ثم ألفت بجسدها على الفراش وانطلقت من بين شفتيها أعلى الضحكات فتركتها سهيلة وغادرت، وبمجرد أن عادت إلى غرفتها لمعت عينيها بخبث وتمتمت في نفسها
- كده تمام أوي وكل حاجة ماشيه زي ما خططت وأحسن
****
بالمشفى...
كانت جوري تجوب الممر المؤدي إلى غرفة العمليات ذهاباً وإياباً بطريقة هيسترية لشعورها الشديد بالخوف فترك أدم مقعده واقترب منها في محاولة منه لتهدئتها ولكن دون جدوى فقد كان شعورها بالخوف يفوق طاقتها الاحتمالية، وبقت على تلك الحالة لعدة دقائق قطعها خروج الطبيب فركضت باتجاهه وتساءلت
- العملية نجحت؟
- الحمد لله حالتها مستقرة وتم استئصال الورم بنجاح
- ألف حمد وشكر ليك يارب
قالتها جوري وهي تبكي بغزارة فأحاط أدم خصرها من الخلف بعد أن ابتعد الطبيب وقربها منه قائلاً
- إيه لازمة الدموع دلوقتي؟
- كنت خايفه عليها أوي
- الحمد لله ربنا طمنك فياريت بلاش دموع، هروح أطمن ماما وعمي وأرجعلك
بمجرد أن ابتعد أدم، اقتربت لمياء من جوري وعانقتها فتمسكت بها وهي تردد
- كنت خايفة أوي
- هي عامله إيه دلوقتي؟ عديت عليهم بره قالوا لسه
- الدكتور قال كويسه وأدم خرج يبلغهم
- طيب ما تعيطيش طالماً الدكتور طمنك
تنهدت جوري بحرقة ثم جلست على أحد المقاعد الموضوع أمام جحرة العمليات ثم نظرت إلى لمياء وقالت
- خايفه أخسرها يا لمياء، خايفه في يوم أصحى وملقيش جمبي لا أب ولا أم
- أخس عليكي ليه تفولي عليها بس، وبعدين تعالي هنا هو مش إحنا أخوات ولا إيه، وأدم جمبك وهيفضل جمبك لأخر العمر
- ربنا يخليكم ليا، أنتي بجد أختي وصديقتي وأقرب حد ليا
عانقتها لمياء مرة أخرى فتمسكت جوري بها علها تجد الأمان الذي فقدته منذ أن علمت بمرض أحلام
****
بمقر دار دار الحكمة للنشر والتوزيع جلس عماد على مقعده داخل مكتب فخم وأمامه مجموعة من الأوراق عليه مراجعتها ليقرر ما يصلح للنشر... كان شارداً لدرجة جعلته ينسى الزمان والمكان، فقط تذكر حديثه معها وتساءل في نفسه ما سر انجذابه نحوها بالرغم من عدم اهتمامه بفتاة من قبل؟... ظهرت على شفتيه ابتسامة خفيفة عندما تذكر معاملتها الجافة له قبل أن يعتذر منها... ظل على تلك الحالة لساعة كاملة ثم فاق من شروده على الأصوات التي تتردد بداخله فاشتعل صراع داخلي مع نفسه... وقف عن مقعده وهو يشعر بالاختتاق ثم دلف إلى الحمام الملحق بغرفة المكتب وغسل وجهه مراراً وتكراراً ثم نظر إلى نفسه في المرآة وردد بحدة
- ما ينفعش اللي بتعمله ده، من أمتى بتهمك واحدة، طلعها من دماغك ولو الكتاب بتاعها السبب يبقى شيله من حساباتك وشيلها هي كمان
أزال المياه عن وجهه ثم عاد ليتابع عمله وكأن شيئاً لم يكن، فقد قضى حياته بعيداً عن النساء وعليه التمسك بقراره إلى الأبد
*****
في العاشرة مساءاً عادت لمياء إلى المنزل برفقة والدها ووالدتها، بينما بقت جوري إلى جوار والدتها وكذلك فاطمة وأدم الذي رفض الابتعاد عن مدللته... دلفت إلى غرفتها وهي تشعر بثقل جسدها فقد كان يوم شاق... أبدلت ثيابها ثم توضأت وصلت فرضها وبمجرد أن فرغت حملت هاتفها ودلفت إلى الشرفة لتتحدث إلى جوري...
على الجانب الأخر صدح صوت رنين هاتف جوري فتركت مقعدها وابتعدت قليلاً ثم أجابت قائلة
- وصلتوا؟
- اه يادوب أتوضيت وصليت
في ذات اللحظة كانت الكوابيس تطارد عماد كعادة كل ليلة فانتفض عن الفراش وهي يتصبب عرقاً وما أن شعر أنه على وشك الاختتاق غادر الغرفة ودلف إلى الشرفة لينعم ببعض الهواء النقي فاستمع إلى صوتها العذب وهي مازالت تتحدث عبر الهاتف
- تصدقي يا بت أنتي الشقة من غيرك هادية أوي
- ربنا ما يحرمنا من بعض ويشفي ماما وعموماً كلها ٤٨ ساعة وأجي أقعد على قلبك
تنهدت لمياء بحرقة فشعرت جوري بالقلق عليها وتابعت متسائلة: مالك؟
- عايزه أفاتح بابا في موضوع النشر وخايفه يرفض
- تااااني، يا بنتي ما قولتلك عمي تفكيره غير كده خالص، أقولك أصبري لما ماما تخرج وأنا بنفسي هفاتح عمي، بس قوليلي بالحق أنتي خايفه على فرصة النشر ولا حاجة تانية؟
- قصدك إيه يا ست جوري؟
قالتها بغضب ونبرة صوت حادة فابتسمت جوري وأجابتها بمرح طفولي: يعني قولت يمكن يعني مهتمة بدار النشر وصاحب دار النشر
- بقولك إيه أقفلي بدل ما أجي أكسر الفون على راسك وأبيتك جمب طنط في الرعاية
- أعوذ بالله منك، أنا هقفل من نفسي جتك القرف
أنهت جوري المكالمة المكالمة وعادت إلى فاطمة وأدم، بينما جلست لمياء على أحد المقاعد لتتأمل السماء ونجومها فشعر عماد برغبة ملحة في الحديث معها دون أن تفهم ذلك فاصطنع الحديث عبر هاتفه الخلوي قائلاً
- يا سامي أسمعني علشان مش حابب كلام كتير في الموضوع ده
ميزت صوته بسهولة فتسارعت نبضاتها وحاولت التماسك فتابع بحدة مصطنعة وصوت عال
- بكرة الصبح خطة المبيعات الجديدة وأرقام التوزيع لسنة المعارض يكونوا على مكتبي ومش هقبل اعذار، مع السلامة
أنهى مكالمته التي لا وجود لها واتجه صوب سور الشرفة عله يتحدث معها دون أن يعرف السبب الذي يدفعه لذلك، فوقفت هي الأخرى عن مقعدها واقتربت من السور لتتلاقي أعينهم في نظرة سريعة قطعها بكلماته التي تحمل الاندهاش المصطنع بطياتها
- الصدف كترت النهارده بينا
- فعلاً، سبحان الله أوضة حضرتك طلعت جمب أوضتي والحيطة في الحيطة
- لحقتي السيكشن بتاعك؟
- لحقته الحمد لله، مش عارفه ازاي بقالي سنتين ونص في القاهرة وما تقابلناش قبل كده في العمارة
- أنا لسه راجع من أمريكا من شهر قضيت منهم أسبوعين بنام في الدار لحد ما جهزت الشقة، لأنها مقفولة من تلات سنين تقريباً
ضيقت لمياء بين حاجبيها فاندهش من فعلتها وتابع: مالك؟
- العمال اللي كانوا شغالين في شقتك مكنش بيحلالهم الدق غير وأنا نايمة
- يا خبر أبيض، ده أنا هروح أشتكي حالاً لمهندس الديكور اللي سلمته الشقة
قال كلماته بطريقة ساخرة محببة إلى القلب فابتسمت ببراءة ليبادلها بسؤال
- قولتي أنك بتقرأيلي، يا ترى قرأتي إيه؟
- كل كتب حضرتك ورواياتك بلا استثناء
- واو، وعجبوكي على كده؟
- أكيد، حضرتك كاتب مميز جداً وأفكارك دايماً مختلفه والنهايات على الأغلب سعيدة بس لاحظت في أخر رواية قسوة في معاملة البطل للبطلة بالرغم أن العشق بينهم كبير أوي
شرد عماد في كلماتها وبدأت أفكار عديدة تدور في رأسه ولكن سرعان ما فاق من شروده عندما تابعت برقة
- هستأذن من حضرتك وأدخل علشان مقتولة نوم
- اه طبعاً أتفضلي
- تصبح على خير
ودعها بابتسامة ساحرة جعلتها تتوه في قسمات وجهه ولم يعيدها إلى أرض الواقع سوى صوته
- تلاقي الخير
انتظر حتى دلفت وأغلقت باب شرفتها ثم دلف هو الأخر واتجه صوب المرآة ليطالع ملامح وجهه فابتسامته لا تظهر إلا في وجودها بالرغم من عدم معرفته الجيدة بها... ظل على تلك الحالة لعدة دقائق ثم حنى رأسه وتمتم بخفوت
- خليك بعيد عنها وبلاش تتعلق بيها، لو عرفت حقيقتك هتكرهك
صمت للحظات ثم رفع رأسه مرة أخرى ونظر إلى الغضب البادي على وجهه وتابع بغلظة وحدة واضحة
- أو هتخونك
ممنوع النقل أو الاقتباس، الرواية مسجلة بالملكية الفكرية التابعة لوزارة الثقافة... دائرة حقوق المؤلف