طريقي بقربك
الفصل الأول
* دموع *
الأم هي الحنان ومن فقدها فقد حنان الكون... والأب هو السند والأمان ومن فقده فقد أمانه وأصبح بلا سند...
والطلاق دوامة يسقط الأبناء بداخلها، لم يعد هناك بيت دافئ وأسرة تجتمع كل مساء على مائدة الطعام، يبقى فقط ضياع لا يعيشه سواهم...
أنا وعد الفتاة الرقيقة صاحبة الملامح البريئة وأشبه والدتي إلى حد كبير، استيقظت ذات يوم لأجد حياتي سراب بعد طلاق والدي.. بكيت وبكيت ولكن لم يسمعني أحد.. أخذوني من بين أحضان أمي وأغلقوا باب غرفتي بعد أن تركوني بداخلها.. وبعد مرور سنوات وسنوات من العذاب الذي لا ينتهي أتساءل ما ذَنبي.. بأي حق تركتوني أواجه عالمي.. ذنبي الوحيد أبي الذي سقط من قلبي قبل نظري وأمي التي لا حول لها ولا قوة.. ذنبي عالم ملوث ومليء بالوجوه الملونة والابتسامات الذائفة.. لن أدع أحدهم يكسرني بعد اليوم، سأمضي في طريقي وحدي لأهزم قدري وأنفذ الوعد الذي قطعته على نفسي..
لن انحني لأحد..
لن أبكي لفراق أحد..
*******
في عقار فخم بمنطقة راقية....
كانت وعد تجوب غرفتها ذهاباً وإياباً وهي تشعر بالتوتر، فاليوم موعد إعلان نتيجة الثانوية العامة.... كانت تطالع الانترنت بين تارة وأخرى وصدرها يعلو ويهبط من شدة شعورها بالتوتر، وظلت هكذا حتى وقعت عينيها على النتيجة... وضعت يدها على ثغرها لتكتم صرختها فقد كُتب اسمها وإلى جواره رقم لم تحلم به يوماً فقد حصلت على ٩٩%.... أخذت تدور حول نفسها في سعادة فقد تحقق الحلم الذي طالما تمنته وهو الالتحاق بكلية الطب.... وبمجرد أن توقفت عن الدوران أرسلت لوالدتها رسالة نصية تخبرها بالنجاح ثم غادرت غرفتها وركضت بإتجاه غرفة والدها ودلفت إليها وهي تردد بسعادة
- جبت ٩٩% يا بابا، جبت ٩٩% يا بابا
لوت زوجة أبيها شفتيها بضجر ووقفت أمامها قبل أن تقترب من يحيى وهتفت بحدة وصوت عال
- إيه الدوشة دي يا بنت رمزية
- نجحت وجبت ٩٩% وهدخل كلية طب
قالتها بسعادة وهي تقفز كالأطفال فابتسم والداها على الفرحة التي تسكن عينيها، لكن تلك النظرة لم تدوم طويلاً... قبضت زوجته يدها على معصم وعد بغل ثم صفعتها على وجنتها باليد الأخرى
- كلية إيه وزفت إيه، أنتي من بكرة هتقعدي في البيت تخدميني وتخدمي أخواتك، كفاية عليكي الثانوية العامة، مش كده يا يحيي؟
نظر يحيي إلى الأرض ولم يستطع أن يتفوه ولو بكلمة، فزوجته أنجبت له ولدين وكلما أغضبها كانت تترك المنزل وتحرمه منهما، ولكونه رجل شرقي كان يفضل الولدين على ابنته التي أذاقتها زوجته منيرة أشد أنواع العذاب... تساقطت الدموع من عينيّ وعد وتمنت أن ينصفهاأبيها ولو لمرة واحدة لكنه لم يفعل كعادته، فابتسمت زوجته بانتصار وأردفت قائلة
- أظن كده الرد وصل، غوري على أوضتك وكمان شوية تدخلي تنضفي الخضار وتعملي غداء بكرة على بيات، قال طب قال بلا دلع بنات ماسخ
- أنا مش هقعد في البيت، أنا عايزه أكمل تعليمي
- أنتي بتتحديني يا بت رمزية
قالتها وهي تجذب وعد من خصلات شعرها فتأوهت بشدة، وما هي إلا دقيقة واحدة حتى حررت وعد جسدها وهتفت بحدة لم تختبرها من قبل
- كفاية ذل، من يوم ما ضحكتي على بابا وسرقتيه من ماما وأنتي معيشاني في جحيم، جوعتيني وذلتيني وأبسط حقوقي سرقتيها، بس لحد كده وكفاية
توقفت عن إكمال كلماتها حينما اقتربت منها زوجة أبيها وهمت أن تصفعها، لكن سبقتها وعد وأمسكت يدها ثم أردفت قائلة
- من النهارده مش هسمحلك تمدي أيدك عليا
نفضت منيرة يد وعد وهتفت بنبرة صوت تحمل الغل الكائن بداخلها
-قدام عشر دقايق تتلمي فيهم هدومك وتطلعي بره بيتي يا بنت رمزية
نظرت إلى والدها عله يعترض ولو لمرة واحدة منذ سبع سنوات إلا أنه لم يفعل، فابتسمت بسخرية ثم مسحت دموعها وغادرت الغرفة عائدة إلى غرفتها وهي تشعر بالألم والخذلان الذي اعتادت عليه
*********
دلفت إلى حجرتها وأحضرت حقيبة لتجمع أشيائها... كانت تبكي بغزارة على حالها ولا تعلم لمن تلجأ ومع ذلك قررت أن لا تستسلم لتلك الظالمة... بعد مرور عدة دقائق انتهت وأغلقت حقيبتها ثم غادرت الغرفة لتودع شقيقيها... اقتربت منهما لتطبع قبلة على رأس كل واحد منهم، لكن زوجة أبيها كانت الأسرع... وقفت أمامها وأشارت بيدها إلى باب الشقة فابتسمت وعد بسخرية وهتفت بشموخ
- أنا خارجة من نفسي وهسيبلك الجنة أشبعي بيها بس هيجي يوم وربنا ينتقم منك، وزي ما أمي رجعت بيتها من سبع سنين لقيتك في حضن أبويا، هيجي يوم ترجعي تلاقيه في حضن واحدة تانية ويبقى مصيرك الشارع زي ما عملتي فيا وفي أمي
مضت دون أن تودع والدها أو تنظر إليه فقد سقط من نظرها إلى الأبد... اتجهت صوب الشقة المقابلة لشقة والدها وطرقت بابها ففتحت صديقتها ورفيقة دربها حنين
- مبروك يا وعد لسه شايفه النتيجة و
توقفت حنين عن إكمال كلماتها حينما انتبهت إلى الحقيبة التي تحملها وعد، وانتبهت كذلك للدموع التي تسكن مقلتيها فتساءلت بصوت مرتعش
- مالك يا وعد، وإيه الشنطة دي؟
قصت وعد كل ما حدث لها على صديقتها فحزنت الأخيرة بشدة وبكت رغماً عنها
- طيب هتروحي فين دلوقتي؟
- هروح لماما
- طيب خليكي معايا وعيشي معانا
ابتسمت وعد بالرغم من الحسرة التي تملأ قلبها وهتفت بصوت غلبه الحزن وغلفه الألم
- معلش يا حنين مش عايزه أحملكم فوق طاقتكم
- ما تقوليش كده يا وعد كلنا بنحبك
- لو ضاقت بيا هرجع
- طيب أستني دقيقة
دلفت حنين وعادت بعد أقل من دقيقة حاملة بعض جنيهات وقدمتها إلى وعد... خجلت وعد في البداية لكن لم يكن لديها خيار أخر فهي لا تحمل المال الكافي لإيصالها إلى منزل والدتها فأخذت المال وهتفت بخجل
- انا متشكرة أوي يا حنين
- ما تقوليش كده أحنا أخوات وبأمر الله هندخل كلية الطب مع بعض
- أشوف وشك بخير
- طمنيني عليكي لما توصلي
بادرت حنين بعناق وعد فشددت الأخيرة في احتضانها ثم مضت إلى وجهتها عل الحظ يحالفها ويساعدها زوج أمها
*********
بعد مرور ساعتين وصلت أسفل العقار الذي تسكنه والدتها، لكنها ترددت في الدخول خوفاً من زوج والدتها الذي لم تقابله من قبل وظلت هكذا لعدة دقائق ثم أخذت قرارها بالدخول فمسحت دموعها ودلفت إلى الداخل ثم استقلت المصعد إلى شقة والدتها... طرقت باب الشفة بخفة حتى لا تُفرع أحد فقد تخطت الساعة العاشرة مساءاً.... لم تمض سوى دقيقة واحدة حتى فتح زوج والدتها ورمقها بنظرة اندهاش لرؤية حقيبة ثيابها فابتلعت ريقها بصعوبة وهتفت متسائلة
- أنا وعد، ماما موجودة؟
- موجودة بس خير يعني؟
- ممكن أشوفها
- هي نايمة دلوقتي، أبقي تعالي الصبح وأنا بره
استيقظت رمزية وذهبت باتجاه باب الشقة، وما أن وقعت عينيها على وعد اقتربت منها وضمتها إلى صدرها فانفجرت باكية وهتفت بصعوبة
- بابا ومراته طردوني من البيت
أتسع فاه رمزية بينما زفر زوجها بضيق وأغلق باب الشقة بحدة فانتفض بدن وعد وابتعدت عن صدر والدتها ثم كفكفت دموعها وبدأت تقص عليهما ما حدث... زفر زوج رمزية مراراً وتكراراً بينما شعرت أمها بحسرة في قلبها
- طيب ما تعيطيش وأدخلي أرتاحي جوه و
قاطعها زوجها قائلاً بحدة وصوت عال: تدخل فين؟!!!!
- أمال هتروح فين يا محمد؟
- وأنا مالي هو أنا كنت خلفتها ونستها، إذا كان أبوها رماها هقعدها أنا
اقتربت رمزية من زوجها وركعت أمامه علها تستعطف قلبه، لكنه تمسك بقراره... اقترب من وعد وقبض يده على معصمها ثم ألقى بها بالخارج وما أن أغلق باب الشقة، نظر إلى رمزية وتحدث محذراً
- إياكي تفكري تدخليها ولا تديها مليم من فلوسي، لما أتجوزتك على مراتي قولتلك أني مش عايز عيال ولا غم في البيت ده وأنتي قبلتي، صح؟
قال كلمته الأخيرة بحدة وصوت عال فسرت رعشة خوف في بدن رمزية جعلتها تحرك رأسها كإشارة بنعم فرفع محمد أحد حاجبيه وأردف قائلاً
- يبقى أدخلي كملي نوم بدل ما تحصليها وترجعي الشارع اللي جبتك منه
امتثلت لرغبته ودلفت إلى حجرة النوم وهي تبكي على حالها وحال ابنتها التي غادرت منذ لحظات إلى مصير مجهول
********
غادرت وعد العقار وهي تبكي بغزارة ولا تعلم لمن تلجأ... وبعد مرور عدة دقائق من التفكير استقلت الحافلة وقررت الذهاب إلى منزل عمها عله يساعدها.... كانت شاردة بشدة وأخذت تفكر فيما سيلحق بها إن لم تجد منه الترحاب... أغمضت عينيها بأسى وتساقطت دموعها وتساءلت في نفسها ما الذنب الذي اقترفته لتتحول حياتي إلى جحيم... كنت طفلة أبلغ من العمر عشر سنوات حينما تفرقت عائلتي... عادت أمي من عملها مبكراً لشعورها بالإرهاق فقد كانت تحمل جنياً في أحشائها... مرت بطريقها على مدرستي لتأخذني معها إلى المنزل حتى لا ترهق أبي، فقد كان الزوج والحبيب والسند بالنسبة لها... وبمجرد أن عدنا إلى المنزل سمعنا صوت والدي، تهللت أساريري وكدت أركض باتجاه غرفته، لكنها منعتني وطلبت مني الاغتسال بالأول... ركضت صوب الحمام بينما دلفت أمي إلى غرفتها لتطمئن على والدي الذي لا يعود إلى البيت قبل أذان المغرب ما جعلها تشعر بالقلق عليه، لكنها بمجرد أن اقتربت من باب الغرفة شعرت باهتزاز الأرض قدميها فقد استمعت إلى صوت أبي برفقة إحداهن... قبضت يدها على مقبض الباب وأدارته ثم دلفت إلى الغرفة لتتفاجأ برؤية والدي عاري الجسد وإلى جواره صديقتها العزيزة التي دائماً تخبرها أنها بمثابة الأخت... لم تستطع أن تتفوه ولو بكلمة، بينما جحظت عينيّ والدي وأسرع في ارتداء ثيابه على عكس صديقتها التي ابتسمت بانتصار وهي تدثر جسدها بالغطاء.... اقترب والدي من أمي وكاد أن يتحدث لكنها باغتته بصفعة على وجنته تحولت فيما بعد إلى عدة صفعات أنهال بها والدي على وجهها وجسدها متناسياً حملها فسقطت مغشياً عليها وسالت الدماء على قدميها معلنة عن موت شقيقي قبل أن يُولد... راقبت ما حدث في صمت فقد كنت طفلة لا تعي أي شيء مما حدث واليوم أقسم أن ذلك اليوم كان نهاية حياتي وبداية عذابي....
عادت وعد إلى أرض الواقع حينما انتبهت إلى صوت السائق يخبرها بأن تلك المحطة هي ما سألت عنها وقت الركوب، فتركت مقعدها وترجلت من الحافلة ومضت إلى منزل عمها أو بالأحرى إلى الملجأ الأخير بالنسبة إليها... دلفت إلى العقار وصعدت إلى شقة عمها.. ضغطت زر جرس باب الشقة وهي تشعر بخجل شديد فقد تخطت الساعة الحادية عشر والنصف مساءاً.. وما هي إلا دقائق حتى فتح ابن عمها الذي يصغرها بثلاث سنوات باب الشقة واندهش بشدة لرؤيتها بتلك الحالة فحمل عنها الحقيبة وأدخلها إلى الشقة ثم رمقها بنظرة تساؤل فهمتها جيداً فهتفت بصوت غلفه الحزن
- عمي موجود؟
كاد أن يجيبها، لكن قاطعه صوت والده حينما هتف متسائلاً: في إيه يا وعد؟
شرعت أن تجيبه ولكن سبقتها زوجة عمها وهتفت بحدة: في بنت محترمة تفضل بره بيتها لحد دلوقتي
- أنا مليش بيت أصلاً
- يعني إيه؟
قالها عمها باندهاش فنظرت إليه بعينيّ ذبلت من كثرة البكاء وقصت عليهم كل ما حدث معها فلوت زوجة عمها شفتيها بضجر وهتفت بحدة
- طب إيه اللي عايزه تدخليه
- أنا من حقي أكمل تعليمي، مش كده يا عمي؟
شرع عمها أن يجيبها، لكن سبقته زوجته حينما رمقته بنظرة نارية وهتفت بغيظ
- ياسين عايزاك في كلمتين
تركت مقعدها ودلفت إلى غرفتها فلحق ياسين بها وهو لا يعرف كيف يتصرف، وما أن أغلق باب الغرفة، انفجرت زوجته في وجهه كالبركان الثائر
- بقولك إيه البت دي ملناش دعوة بيها، طب إيه اللي عايزه تدخله، ده ابنك بيعدي السنة بالعافية وبنتك بقالها سنتين بتسقط في الثانوية
- بس البنت مبقلهاش مكان وما ينفعش أسيبها في الشارع
جزت زوجته على أسنانها وتطاير شرار الغضب من عينيها فقالت بحدة
- إذا كان أبوها وأمها رموها هنشيل همها إحنا، وبعدين أحنا يادوب فاتحين البيت بالعافية ومش حمل مصاريف
- بس
قاطعته قائلة بحدة وصوت عال: لا بس ولا ما بسش أبوها على قلبه فلوس بالكوم ورماها في الشارع جايه لموظف مرتبه ما بيكفهوش لنص الشهر
اتجهت صوب باب الغرفة وفتحته وتابعت بأعلى طبقات صوتها قائلة
- إحنا مش ناقصين قرف، وبعدين أخوك الكل عارف فضحته مع عشيقته اللي كانت ماشيه معاه في الحرام والست أمها سارقه واحد من مراته وأكيد البت اللي بره طالعه زيهم
وصلت كلماتها إلى مسامع وعد فانهمرت دموعها من جديد، اقترب منها ابن عمها وربت على كتفها بحنان فكفكفت دموعها وابتسمت له بالرغم من الألم الذي بعتصر قلبها... وما هي إلا دقيقة واحدة حتى حملت حقيبتها وغادرت المكان فخرجت زوجة عمها وهي تبتسم بانتصار فهتف ابنها بغيظ
- حرام عليكم
- أخرس يا فاشل وغور على أوضتك، عايزها تقعد علشان تعقدكم وتفقع مرارتي، جتك خيبه
**********
جلست وعد على الدرج وبداخلها ألم يعتصر قلبها وظلت تبكي وتبكي حتى جفت الدموع داخل عينيها فوقفت عن الدرج وحملت حقيبتخا ثم مضت وهي لا تعلم أي باب تطرق... فقد أُغلقت جميع الأبواب التي طرقتها في وجهها... والآن تغدو وحيدة... غريبة... شريدة ... تسألت في نفسها هل هي نهاية الطريق أم أنها البداية... تبا لقدر جعلها هكذا... تمضي ولا تعلم إلى أين تذهب أو إلى أي باب تلجأ.... هربت دمعة من عينها وتساقطت واحدة تلو الأخرى وظلت تمضي وتمضي حتى أصابها التعب فجلست على أحد الأرصفة وأجلست حقيبتها إلى جوارها، فقد أصبحت رفيقهتا الوحيدة في هذا الليل الدامس... وما هي إلا دقائق حتى أستندت على الحقيبة وغفت بالطريق كمن لا أمل له، ولا بيت له، ولا حياة له
No comments:
Post a Comment