جوري ( الوردة الحمراء ) - الحكاية الثانية لثلاثية قدر النساء
الفصل الثاني - بقلمي منى سليمان
* جنون *
على مائدة الطعام جلس أدم على المقعد المقابل لجوري على غير عادته، فهو دائم الجلوس إلى جوارها بل واعتاد إطعامها بيديه ليزيد من دلاله لها فهي طفلته وحبيبته وكل شيء بالنسبة إليه... شاكسها بنظراته وغمزاته وأحيانا قبلاته التي أرسلها إليها عبر الهواء كلما سنحت له الفرصة، فكانت تخجل تارة وتأسر ضحكتها تارة أخرى وبالنهاية فقدت السيطرة على ضحكتها التي انفلتت منها لا إرادياً فشاركها الضحك بجنون ما جعل فاطمة تقول بخبث
- ربنا يبسطكم كمان وكمان، هقوم أشوف أحلام أتأخرت ليه
- ياريتها جت معاكي، بخاف تسافر لوحدها
- ما تقلقيش يا قلبي هي كان لازم تخلص الورق كله بدل ما تبات ليلة كمان في القاهرة، هقوم أطمن عليها وأجي
صعدت فاطمة إلى غرفتها لتتحدث إلى شقيقتها عبر هاتفها النقال فاستغل أدم الفرصة وترك مقعده ثم جلس إلى جوار جوري ليطعمها كعادة كل يوم إلا أنها عقدت بين حاجبيها واصطنعت الغضب فسألها
- قمري زعلان ليه؟
- أنت عارف أني بتكسف ومع ذلك عمال تعاكسني وطمطم قاعده
- طيب بزمتك القمر يبقى قاعد قدامي وما عاكسش
خفق قلبها بسعادة وأطالت النظر إليه لدرجة جعلتها تغرق في بحور عينيه الزرقاء كما غرق هو في مقلتيها الملونة بلون السماء وظلا هكذا حتى ابتسم أدم لرؤيته حمرة وجنتيها فتابع
- حاسس أني عايز أخبيكي جوايا
- أول مرة تقولي كلام حلو، دايماً بتزعقلي وتشخط وتنطر
بدأت كلماتها بصوت دافئ وانتهت بغيظ فأسر ابتسامته بصعوبة وقال بصوت كساه العشق
- مقدرتش أسافر من غير ما اعترف بعشقي ليكي، من سبع سنين مفيش ليلة عيوني ما قابلتش عيونك
أغمضت عينيها لتستمتع بعذوبة كلماته ولكن سرعان ما فاقت من سحر اللحظة عندما أردف
- وبالنسبة للشخط والنطر فأنا ممكن أقطع رقبتك لو شوفتك بتكلمي ولد ولا حتى عينك بالغلط بصت ليه، مفهوم؟
مطت شفتيها بضجر ثم وقفت عن مقعدها لتغادر فقبض على معصمها مانعاً إياها من المغادرة لكنها سحبت يدها وركضت مُسرعة قبل أن يمسك بها فراقبها وهي تصعد الدرج ثم ابتسم على غضبها الممزوج بالخجل
***
في العاشرة مساءاً وصلت أحلام إلى المنزل فركضت جوري باتجاهها وعانقتها... تضاربت المشاعر داخل أحلام بين السعادة لرؤية ابنتها والحزن لما حدث معها طوال اليوم فشددت في تقريبها لدرجة جعلت جوري تتأوه بخفوت
- آسفة يا عمري
قالتها أحلام ثم أبعدت جوري عنها وهي تأسر دموعها بصعوبة فتساءلت بقلق
- مالك يا ماما؟
- مفيش يا عمر ماما
تسرب الشك أكثر إلى قلب جوري وشرعت أن تكرر سؤالها لكن سبقتها فاطمة عندما تدخلت في الحوار
- ماما زي الفل يا جوري هي بس راجعه هلكانه من السفر، يلا أخرجي شوية في الجنينة مع أدم وهي هتطلع ترتاح
حركت رأسها بالموافقة ومضت برفقة أدم إلى الخارج بعد أن طبعت قبلة على يد والدتها... انتظرت فاطمة حتى تأكدت من مغادرة جوري ورمقت أحلام بنظرة تساؤل فهمتها الأخيرة جيداً وحركت رأسها لأعلى وأسفل لتؤكد شكوك فاطمة التي وضعت يدها على ثغرها لتكتم الصرخة التي كانت على وشك الانطلاق من بين شفتيها، وبمجرد أن استوعبت الصدمة جذبت أحلام إلى صدرها وهي تردد
- خلي أملك في ربنا كبير
- فوضت أمري ليه
- يلا أطلعي ارتاحي
مسحت أحلام الدموع الساقطة على وجنتيها وصعدت الدرج إلى غرفتها، بينما جلست فاطمة على الأريكة وهي تكاد لا تصدق ما حدث
***
بالخارج...
جلست جوري على أحد المقاعد وجلس أدم إلى جوارها وبدأ يثرثر معها كعادته لكنها كانت شاردة بشدة فتوقف عن الحديث وانتظر أن تنظر إليه أو تشعر بوجوده وذلك لم يحدث فوضع يده أسفل ذقنها وأدار وجهها إليه فأزالت يده وتساءلت بخجل
- في حاجة؟
- سرحانه في إيه؟
- حاسه في حاجة ماما مخبياها عني، كمان من شهر حاسه أنها متغيرة، مش هي دي ماما، قلبي بيقولي في حاجة يا أدم
انطلق أسمه من بين شفتيها بنبرة صوت دافئة فلم يشعر بنفسه إلا وهو يجذبها إلى صدره فاعترضت في البداية لكنه تمسك بها حتى سكنت وشعرت بالأمان فقال بصوت هادئ
- طول ما أنا في قلبك ما ينفعش حاحة غيري تشغله، مفهوم؟
طبع قبلة على خصلات شعرها فابتعدت عنه وحمرة الخجل تصبع وجنتيها ولم تستطع أن تجيبه فكرر سؤاله بصوت أكثر دفئاً فحركت رأسها بالموافقة وأجابته
- حاضر، بس أوعدني لو شكوكي دي صح وأنت عارف في إيه هتقولي
- أوعدك أني عمري ما هخبي عليكي حاجة، أوعدك أنك حبي الأول والأخير، أوعدك بيتي الوحيد هو قلبك
ازدادت ابتسامتها اتساعاً وخفق قلبها مع كل كلمة من كلماته حتى أنها نست قلقها وتذكرته فقط فقاطع الصمت قائلاً
- أنا بقول نقوم ننام بدل ما أعمل حاجة تزعلك مني
انتقل بنظراته إلى شفتيها فتعالت شهقاتها وركضت بكل ما أوتيت من سرعة فانفجر ضاحكاً وقهقه بأعلى طبقات صوته
***
رحل الظلام وأسدلت الشمس أشعتها الذهبية التي تنير الكون... في الثامنة والنصف استيقظ أدم واستعد للسفر إلى القاهرة، وما أن حزم أمتعته، ترك غرفته وطرق باب طفلته بخفة فأتاه صوتها العذب سامحاً له بالدخول... دلف إلى الغرفة بخطوات هادئة على عكس نبضات قلبه المتسارعة وتفاجأ بروية دموعها التي كانت تنساب بغزارة على وجنتيها، وقبل أن يتفوه ولو بكلمة اقتربت منه بشدة وألقت بجسدها في صدره فازداد بكائها وتعالت شهقاتها، تضاربت المشاعر بداخله بين السعادة لوجود كل هذا العشق بقلبها، والحزن لرؤية دموعها فتغلب حزنه وأبعدها عنه قليلاً ثم أزال دموعها وتحدث بهدوء لم يعتاده من قبل
- خلاص يا عمري ما تعيطيش
- هتوحشني أوي
- هجيلك كل أسبوع وهقضي معاكي كل الأجازات
- بجد يا أدم ؟
قالتها ببراءة وصوت دافئ غلبه البكاء، فابتسم لها وأزال الدمعة الساقطة عن وجنتها ثم طبع قبلة على مقدمة رأسها وأجابها قائلاً
- بجد يا قلب أدم، يا عمر أدم، يا حبيبة قلب أدم، خلي بالك من نفسك وذاكري كويس علشان تجيبي مجموع كبير زي ما وعدتيني وتدخلي صيدلة
- حاضر، خد بالك من نفسك ولا إله إلا الله
- سيدنا محمد رسول الله
رفعها كفها إلى شفتيه وطبع على باطنه قبلة عميقة فخجلت كعادتها وسحبت يدها ثم قالت بتلعثم
- ها ها هروح أججج أجهزلك الفطار
ركضت مبتعدة فتابعها بعينيه حتى اختفت تمام ثم ضيق بين حاجبيه وتمتم في نفسها
- على قد ما بحب خجلك، على قد ما نفسي تنسيه وأنتي معايا
****
بالقاهرة...
استيقظت فاتن على صوت الخادمة فزفرت بضيق ثم اعتدلت في جلستها استعداداً لتوبيخ الخادمة كعادة كل يوم لكن الأخيرة سبقتها وقالت
- أستاذ فريد منتظر حضرتك تحت وبيقول عايزك ضروري
زفرت فاتن من جديد وأشارت بيدها لتغادر الخادمة ثم تركت فراشها بصعوبة ودلفت إلى الحمام لتنعش جسدها تحت المياه... بعد مرور ما يقارب نصف الساعة تركت غرفتها وهبطت الدرج ثم اقتربت من والدتها وعانقتها
- Bonjour MaMa
- Bonjour Darling
جلست فاتن على المقعد المجاور لوالدتها على مائدة الطعام واندهشت لعدم وجود والدها فارتشفت القليل من فنجان القهوة الموضوع أمامها ثم نظر إلى والدتها وتساءلت
- أمال فين دادي؟
- جاله مكالمة مهمة و
توقفت سهيلة عن إكمال كلماتها عندما رأت فريد يقترب فتركت فاتن مقعدها وتقدمت من والدها ثم عانقته وبادرت بتحية الصباح إلا أنه كان عابساً بشدة فأزال يديها اللتان تحيطان عنقه ورمقها بنظرة نارية فابتلعت ريقها بصعوبة وتابعت
- في حاجة يا دادي؟
- في أنك بقالك سنتين بتسقطي في الجامعة والمفروض خلال أيام هيبدأ الترم وأنتي برضو كل يوم سهر مع أصحابك ورجوع متأخر وطبعاً بتصحي بعد العصر
نظرت فاتن على والدتها بعد أن لوت ثغرها بضجر فهمت أن تدافع عن ابنتها التي أفسدها الدلال، لكن سبقها فريد وأردف
- بوصيلي أنا يا فاتن لأن أنا اللي بكلمك مش ماما، من النهارده مفيش سهر ولا تأخير بره البيت المفروض دلوقتي تكوني في سنة تالتة وانتي لسه في سنة أولى فياريت ما اضطرش أعيد كلامي تاني ده لو عايزاني أشغلك معايا، مفهوم؟
- Ok Dad, I'll try (حسناً سأحاول)
قالتها بغيظ وكأنها على وشك الانفجار ثم صعدت الدرج لتكمل نومها وكأن شيئاً لم يكن فجلس فريد على مقعده وهو يشتعل غضباً ثم حدق زوجته بنظرة نارية وقال
- كله من دلعك فيها، قولتلك ألف مرة بنتك محتاجة وجودك لكن خلاص شغلك أكل دماغك
- وليه مش تتفرغلها أنت وأنا اشتغل، عموماً أنا كمان نفسي أتسدت وهمشي
حملت حقيبتها وغادرت دون أن تتفوه بالمزيد فكور فريد قبضته ثم ضرب بها المنضدة لينفس عن غضبه، وبمجرد أن تمالك أنفاسه حمل مفتاح سيارته وغادر هو الأخر
****
في الظهيرة وصل أدم إلى منزل العائلة بالقاهرة ليبقى على مقربة من الجامعة، دلف إلى الشقة التي رتبتها والدته وأصبح لا ينقصها شيء، حتى أنها أعدت له مجموعة من أكلاته المميزة التي قد تكفيه لمدة لا تقل عن عشر أيام... دلف إلى الداخل ووضع حقائبه على أقرب بقعة وقبل أن يغلق بابه أخرج الهاتف من جيب سرواله ليتحدث إلى الجنية التي شعر بالحنين إليها منذ اللحظة الأولى لوداعها، كان الحوار بينهما مفعم بمشاعر العشق والاشتياق، أمطرها بكلمات عشقه وبادلته بكلمات الحنين حتى أنها بكت من شدة شوقها إليه فشاكسها كعادته لتختلط دموعها بابتسامة تمنى رؤيتها...
بعد مرور ثلاث أيام بدأ أدم دراسته بكلية الهندسة جامعة القاهرة وبعد مرور ما يقارب الأسبوعين التحق بالفرقة المسرحية الخاصة بالجامعة ليحقق حلمه في امتهان التمثيل إلى جانب الدراسة...
بمرور الأيام تعود أدم على حياته الجديدة وكان يعود إلى طفلته في نهاية كل أسبوع، كما قضي معها جميع العطلات كما وعدها، أما هي فكان الحنين إليه قاتل وكأن روحها لا تعود إلا بوجوده واهتمت كذلك بدروسها كما وعدته لتحصل على مجموع يؤهلها للالتحاق بكلية الصيدلية وتبقى إلى جواره بالقاهرة... أصبح الجميع يعلم بالعشق الذي نمى ومازال ينمو داخل قلبيهما وباركت فاطمة وأحلام ذلك
***
مر العام الدراسي بسلام وتخطى أدم سنته الأولى بتقدير (جيد جداً) كما حققت جوري نجاحاً باهراً وقررت السفر إلى القاهرة برفقة والدتها وخالتها لتقديم أوراق التحاقها بكلية الصيدلة، وقررت لمياء أيضاً السفر لتلتحق بكلية الطب جامعة القاهرة...
أما فاتن فرسبت للمرة الثالثة على التوالي ما أشعل غضب والدها فأمر رجال الأمن بمنعها من الخروج في حالة عدم وجوده بالقصر، وكالعادة تدخلت والدتها ولغت جميع قراراته لتفعل فاتن ما يحلو لها من جديد
***
بعد مرور شهرين حزمت جوري حقائبها لتسافر إلى القاهرة وكانت سعادتها عارمة لأنها على وشك رؤية حبيبها الذي سبقها وسافر منذ خمس أيام... في الظهيرة توقف السائق أمام منزل العائلة بمنطقة الدقي بالقاهرة فترجلت جوري في عُجالة ثم صعدت الدرج إلى الشقة حيث ينتظرها والشوق يتأكله
- وحشتيني جداً جداً جداً
قالها أدم بسعادة فابتسمت له ولم تستطع أن تجيبه من شدة خجلها لكنه لم يهتم لخجلها وجذبها إلى صدره فتمسكت به وكأنها وجدت بر الأمان بعد طول انتظار، وبمجرد أن فاقت من سحر اللحظة ابتعدت عنه والحمرة تسيطر على وجنتيها فأردف قائلاً
- الجميل لسه بيتكسف مني
- بس بقى يا أدم
- ههههه حاضر يا
قاطعته فاطمة قائلة: كفاية سلامات يا باشمهندس وتعالى دخل الشنط
اقترب من والدته وطبع قبلة على ظاهر يدها وفعل المثل مع أحلام كما رحب بلمياء ثم حمل الحقائب إلى الداخل وعاد خلال دقائق قليلة ليسلط أنظاره على طفلته فبادلته نظرات العشق لدقائق قطعتها فاطمة من جديد حينما قالت
- أعمل حسابك هتروح بعد بكرة توصل البنات للجامعة وتطمن عليهم لأنهم من النهارده مسئوليتك
- حاضر يا ست الكل
قالها وهو مازال يوجه نظراته صوب جوري فوكزته فاطمة في كتفه وتحدثت بمشاكسة
- لم نفسك بدل ما أرميك في شقة أحلام لوحدك
ما أن وصلت كلماتها إلى مسامع جوري، ازداد خجلها بينما ابتسم أدم ونظر إلى والدته ثم غمز لها وقال بمشاكسة
- مين ده تالي يقعد في شقة تانية ده أنا قتيل هنا، مش كده يا لولي؟
وجه أدم كلماته الأخيرة إلى أحلام والدة جوري ثم اقترب منها وطبع قبلة على ظاهر يدها واستطرد قائلاً
- هتجوزيهالي يا لولي؟
- ههههه هجوزهالك يا عين لولي وأقعد براحتك وسيبك من أمك
- ينصر دينك يا لولي
قالها بعد أن اقترب من طفلته وأمسك يدها ثم نظر في عينيها بعشق وتابع بصوت دافئ
- يلا يا قمر هعزمك على الغداء بره بالعند في طمطم
- خدوا لمياء معاكم
ابتسمت لمياء واقتربت من فاطمة ثم قالت بمشاكسة : لا أنا هقعد معاك يا جميل
قالتها ثم نظرت إلى أدم وغمزت بعينها اليسرى، فقبض يده برفق على معصم جوري وانطلق إلى وجهته بينما دلفت لمياء إلى غرفتها ثم اتجهت صوب الشرفة لتسمتع برؤية سحر شوارع القاهرة... وبالخارج جلست فاطمة إلى جوار شقيقتها ثم ربتت على كتفها وتساءلت
- أحلام هتقولي لجوري أمتى؟
- مش عارفه
- بس بنتك من حقها تعرف
- عارفه بس مش عايزه أضايقها وخبر زي ده هيخليها تنهار وهي فرحانه بالجامعة
قالتها أحلام ثم تساقطت دموعها بغزارة على وجنتيها، فضمتها شقيقتها إلى صدرها
- ربنا عنده الحل يا أحلام، سلميها لله أحن من الكل
- ونعمة بالله
***
في أحد المطاعم الفخمة....
دلف أدم ممسكاً يد حبيبته ثم سحب لها مقعداً فابتسمت له وجلست.
فجلس هو على المقعد المقابل لها وأخذ يتأمل ملامح وجهها البرئ لدرجة أخجلتها
- وحشتيني
قالها بنبرة صوت هادئة تحمل العشق والاشتياق فبادلته بابتسامة ساحرة وهتفت برقة
- وأنت كمان وحشتني
قالتها ثم أطالت النظر في عينيه وتساءلت: هتفضل تحبني على طول؟
- طبعاً أنتي حب عمري كله
- ربنا يخليك ليا
- ويخليكي ليا يا أجمل وردة حمراء في حياتي
ممنوع النقل أو الاقتباس، الرواية مسجلة بالملكية الفكرية التابعة لوزارة الثقافة... دائرة حقوق المؤلف