طريقي بقربك - الحكاية الأولى لثلاثية قدر النساء
الفصل الثاني - بقلمي منى سليمان
* أمل *
غفت وعد لمدة ساعتين ثم استيقظت على صوت أحدهم يقترب منها... شعرت بالخوف وأسرعت في حمل حقيبتها والاختباء داخل مدخل أحد العقارات... كان شعورها بالفزع يفوق قدرتها على التحمل فخرت قواها وجلست أرضاً وهي تبكي بغزارة... ظلت على تلك الحالة حتى غفت وهي تحتضن حقيبتها وكأنها مصدر الأمان بالنسبة لها، ومع أول ضوء لأشعة الشمس تململت وهي تعتقد أن ما حدث كان مجرد كابوس، لكنها ما أن فتحت عينيها علمت أنها حقيقة وحقيقة مؤلمة تتذوق مرارتها بالفعل، فتح أحدهم باب العقار واندهش لرؤية وعد فاقترب منها وتساءل بحدة
- أنتي بتعملي إيه هنا؟
ابتلعت ريقها بصعوبة ثم تمالكت نفسها وقالت بصوت مرتعش: أ أنا أنا
قاطعها حينما قبض على معصمها وهتف: أنتي شكلك بت شمال، كنتي عند أي كلب في العمارة؟
جحظت عينيها في عدم تصديق فابتسم بسخرية وتابع: أكيد كنتي في شقة العيل اللي اسمه وليد، والله لأفضحكم وأنضف العمارة من وساختكم
- أنا معملتش حاجة، معملتش حاجة
قالتها وهي تبكي بغزارة فشعر الرجل أنها على وشك السقوط أرضاً فحرر معصمها وقال محذراً
- لو شفتك في العمارة تاني ولا حتى لمحتك في الشارع هسلمك لبوليس الأداب
ما أن وصلت كلماته الأخيرة إلى مسامعها، رمقته بنظرة عتاب ممزوجة بالحزن ثم قالت بصوت كساه الألم
- حاضر
حملت حقيبتها وغادرة العقار لتمضي من جديد إلى المجهول وبداخلها جرح عميق لظن الرجل بها وظلت هكذا حتى شعرت بالجوع يلتهم أمعائها فوضعت يدها في جيب بنطالها وأخرجت ما بقى معها من نقود ثم اتجهت صوب متجر صغير وابتاعت زجاجة مياه ورغيف خبز ثم أعطت النقود للبائع واتجهت صوب محطة الأتوبيس..... جلست على أحد المقاعد وتناولت رغيف الخبز الفارغ ثم ارتشفت القليل من قطرات المياه لتروي ظمئها... تسللت دمعة من عينها على الحالة التي وصلت إليها، لكنها سرعان ما أزالتها حينما رأت أحدهم يتاملها من رأسها حتى أخمص قدميها فخبأت عينيها عنه ثم أخرجت المصحف الذي لا يفارقها منذ الطفولة وبدأت تقرأ آياته لكي تشعر بالسكينة التي تحتاج إليها
********
في منزل حنين.....
أوقف حسام سيارته أمام منزله ثم ترجل منها ونظر باتجاه شرفة وعد عله يراها، لكنه وجد الشرفة مغلقة فدلف إلى العقار وصعد مُباشرةً إلى شقته ثم اتجه إلى غرفة حنين ودلف إليها وهو يغني بسعادة لنجاح شقيقته... تململت حنين بكسل ثم وضعت الوسادة على رأسها لتتجاهل صوته وتكمل نومها لكنه لم يستسلم.. اقترب منها وأزال الوسادة ثم أخذ يداعب وجهها بيده وهو يغني بسعادة
- وحياة قلبي وأفراحه، وهناه مالمسا لصباحه، ما لقيت فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاح أخته
ابتسمت على حنان شقيقتها وعلى الفرحة التي تسكن عينيه فاعتدلت في جلستها وهي تفرك عينيها كالأطفال فاقترب منها وطبع قبلة على مقدمة رأسها ثم جلس إلى جوارها وقال بصوت دافئ
- مبروك يا دكتورة وأسف علشان مقدرتش أرجع أمبارح ونمتي من غير ما أشوفك
- الله يبارك فيك يا حضرة الظابط، واعتذارك مقبول
- قوليلي عايزه هدية إيه؟
قالها وهو يحك مقدمة رأسه بأنامله واصطنع الضجر فابتسمت على فعلته وهتفت بسعادة
- عايزه هدية صغيرة قد كده أهوه
قالتها وهي تضم إصبعها السبابة على الإبهام فابتسم لها وهتف بحنان اعتاد عليه
- طلباتك أوامر
- عايزه عربية
رفع أحد حاحبيه بعدم تصديق ثم رمقها بنظرة غيظ فكتمت ضحكتها بصعوبة وأرفت قائلة
- علشان خاطري والنبي والنبي و
قاطعها قائلاً بغيظ: خلاص يا زنانه بكرة هجيبلك أحلى عربية
- ربنا يخليك ليا، بجد من بعد وفاة ماما وبابا أنت بقيت كل حاجة ليا في الدنيا
ألقت بجسدها في صدره فحاوطها بحنان وشدد في احتضانها فتذوقت الحنان الذي لا تشعر به إلا وهي بين أحضان الرجل الوحيد الذي تعتمد عليه وتشعر معه بالأمان... وبعد مرور دقائق من الصمت تذكر وعد فأبعد حنين عن صدره وهتف متسائلاً
- وعد هتدخل طب معاكي؟
ما أن وصل أسم وعد إلى مسامعها، مطت شفتيها بضجر وتلألأت الدموع داخل عينيها فضيق حسام بين حاجبيه في اندهاش وتساءل
- في إيه؟
- وعد سابت البيت
انتفض حسام عن الفراش وظهرت الصدمة بوضوح على قسمات وجهه وهتف بصوت غلفه القلق
- يعني إيه سابت البيت؟
تجمعت الدموع داخل مقلتيها أكثر وأكثر وهي تقص عليه ما حدث فتبدلت قسمات وجهه واشتعل غضباً ثم كور قبضته وضرب بها كف يده الأخر وهو يتمتم
- ربنا ينتقم منه ومن العقربة مراته
- ربنا ياخدهم
- طيب أطمنتي عليها؟
- اتصلت كتير ما ردتش
شعر حسام بالقلق عليها فأخرج هاتفه من جيب بنطاله ليتحدث إليها... في تلك اللحظة كانت وعد مازالت تقرأ آيات الله، وما أن صدع صوت رنين هاتفها، توقفت عن تلاوة القرآن ثم ضغطت زر الإيجاب وكادت أن تتحدث لكن سبقها حسام وهتف بقلق متسائلاً
- أنتي فين؟
لم تستطع أن تجيبه ولو بكلمة، لكن تحدثت دموعها التي اقترنت بشهقات عالية كانت بمثابة خنجر طُعن في قلبه... أغمض عينيه بأسى على حالها وكرر سؤاله عله يحصل على جواب لكن دموعها كانت الجواب الوحيد الذي حصل عليه في المرتين.. وبعد مرور دقائق من الانتظار هدأت قليلاً وقصت عليه ما حدث فشعر بجمرة نار تتسلل إلى قلبه واشتعل غضباً، لكنه لم يظهر لها ذلك بل تحدث بهدوء مصطنع قائلاً
- طيب ما تتحركيش من مكانك، نص ساعة وهبقى عندك
أنهى المكالمة وقص على حنين ما حدث معها فانفجرت دموعها كالشلال على حال صديقتها ورفيقة دربها
- نامت في الشارع
- مش وقته دلوقتي يا حنين، أنا هروح أجيبها وأجي
- أنا هاجي معاك
- طيب يلا ألبسي على ما أغير هدوم الشغل
بعد مرور عدة دقائق انطلق بسيارته مصطحباً شقيقته التي كانت تبكي بغزارة... لم يستطع منعها من البكاء لشعوره الشديد بالغضب فلم يتخيل من قبل أن يكون مصير تلك البريئة النوم على أرصفة الشوارع
*********
في عقار فخم....
استيقظ أمجد وتململ في فراشه بكسل حينما صدع صوت رنين هاتفه... زفر بضيق واعتدل في جلسته وهو يتثاءب ثم أمسك هاتفه وضغط زر الإيجاب
- خير؟
- في قتيل في شقة في المعادي
لوى أمجد شفتيه بضجر وهتف بغيظ: هي الناس دي ما بيحللهاش القتل غير وأنا نايم
- معلش أبقى أديهم المواعيد اللي يقتلوا فيها
انفجر الضابط ضاحكاً فجز أمجد على أسنانه وهتف بحدة: أنت بتهزر!!!!
- وهعملك إيه يعني، أخلص علشان الجثة أتنقلت للمشرحة والنيابة مستعجلة على التقرير
- حاضر
أنهى أمجد المكالمة ثم نظر إلى الهاتف وتمتم في نفسه: أنا هقدم استقالتي وارتاح
ترك فراشه بصعوبة ودلف إلى الحمام.... وما هي إلا دقائق حتى ارتدى ثيابه وغادر إلى عمله في مشرحة زينهم، لكنه شعر برغبة ملحة في النوم فقرر الاتصال بصديقه حتى لا يغفو أثناء القيادة
*********
بالطريق....
صدع صوت رنين هاتف حسام فصف السيارة على جانب الطريق اعتقاداً منه أن المتصل وعد، لكنه اندهش حينما رأى أسم المتصل "أمجد" فضغط زر الإيجاب وهتف
- إيه مصحيك بدري كده؟
- البركة فيكوا
- إحنا مين؟
- المباحث الجنائية مصحياني من النوم علشان جثة
قالها بطريقة تمثيلية فابتسم حسام بالرغم من شعوره بالغضب وهتف مازحاً
- حد قالك تشتغل في مشرحة
- منه لله محمود راح يتجوز وسابني في القرف لوحدي والبهوات التانين ما صدقوا سافروا مؤتمر ثورة التشريح
- معلش بكرة يرجعوا، أنا مضطر أقفل علشان رايح مشوار
- والشغل؟
- أنا لسه راجع من ساعة ووأخد باقي اليوم أجازة
- ماشي مش هعطلك، سلام
أنهى حسام المكالمة وأعاد تشغيل محرك السيارة ثم انطلق بها وهو يفكر في الحالة التي وصلت إليها وعد، ولكن قاطع شروده صوت بكاء شقيقته
- حنين بلاش تخلي وعد تشوفك كده
- بجد صعبانه عليا أوي
- ما تخافيش أنا مستحيل أتخلى عنها، كفاية عياط بقى
- حاضر
قالتها ثم مسحت دموعها وأخذت تتابع الطريق في صمت بينما زاد حسام من سرعته ليصل إليها في أقرب وقت... ولم تمض سوى دقائق قليلة حتى وصل إلى وجهته فأوقف السيارة وترجل منها وفعلت حنين المثل ثم اقتربت من وعد وعانقتها فانهمرت دموع كل واحدة منهن فهتف حسام بصوت غلفه الألم
- وبعدين معاكم، كفاية عياط وأركبوا العربية
ابتعدت وعد عن حنين ثم نظرت إلى حسام بعينيّ ذبلت من كثرة البكاء وتساءلت
- هنروح فين؟
- هتيجي تعيشي معايا أنا وحنين
- لا أنا مستحيل أرجع البيت ده تاني
- وأنا مستحيل أسيبك في الشارع
قالها بحزم جعل وعد تبكي من جديد فزفر بضيق على فعلته وأردف بحنان وصوت دافئ قائلاً
- أسف أني انفعلت عليكي بس بجد مستحيل أسيبك في الشارع
- وأنا مش هقدر أرجع البيت ده
- طيب تعالوا نفطر وبعدين ربنا يحلها من عنده
قالتها حنين فرحب حسام بينما اعترضت وعد في البداية ولكن مع إصرار حسام حركت رأسها بالموافقة وهمت أن تحمل حقيبتها، لكنه سبقها وحملها عنها ثم نظر إليها وهتف مازحاً
-أنا مش مالي عينك ولا إيه؟
ارتسمت ابتسامة خفيفة على جانب ثغرها وهتفت برقة: بجد مش عارفه أشكركم أزاي، أنتوا أهلي اللي طلعت بيهم من الدنيا
- طيب كفاية كلام ويلا نفطر
مضت وعد إلى السيارة وجلست بالمقعد الخلفي ثم أسندت رأسها على زجاج السيارة وشردت بالطريق فتأملها حسام من مرآة السيارة بين تارة وأخرى وشعر بالغضب لرؤيتها تتألم داخلياً بتلك الطريقة وأخذ يفكر في طريقة تقنعها بالبقاء معهم
*********
بعد مرور عدة دقائق أوقف حسام السيارة أمام مطعم فخم فترجلوا جميعاً منها ودلفوا إلى الداخل... وما أن جلسوا نظر إلى وعد وهتف متسائلاً
- تفطري إيه؟
- أي حاجة مش فارقة
استشعرت حنين الحزن المصاحب لنبرة صوت وعد فقررت تلطيف الأجواء وقالت مازحة
- يا سلام اشمعنى ما سألتنيش هاكل إيه وسألت وعد
كاد أن يجيبها لكن سبقته وعد حينما هتفت: حقك عليا ما تزعليش بسببي
قالتها بنبرة صوت تحمل الخجل والانكسار، فشعر بالأسى على حالها بينما انتفضت حنين عن مقعدها واتجهت صوب الحمام لتطلق العنان لدموعها الحبيسة، أما بالخارج نظر حسام إلى وعد وتحدث بحنان قائلاً
- مش عايزه تيجي تعيشي معانا ليه؟
- مش هقدر أدخل البيت ده تاني ولا هقدر أشوفها أو أشوفه تاني
- طيب هتعيشي فين وإزاي؟
- هدور على شغل مع الدراسة
- طيب وهتعيشي فين؟
- مش عارفه
شرع أن يتحدث، لكن قاطعته عودة حنين التي كانت تظهر عليها السعادة فاندهش بشدة لكنه لم يعلق، بينما جلست حنين على مقعدها وهتفت بسعادة
- أنا لقيت حل مناسب
- الإلهام جالك في الحمام؟
قالها مازحاً فوكزته حنين في صدره وهتفت بغضب: بطل هزار
- حاضر، يلا قولي الحل
- إيه رأيكم وعد تعيش مع طنط سوسن؟!!!
حرك حسام رأسه بالموافقة وفعلت وعد المثل ثم شردت بشدة وعادت بذاكرتها إلى ثلاث أعوام مضت وتذكرت صديقتها نور التي اختطفها الموت في حادث أليم نجت منه والدتها فقط، وتذكرت أيضاً ما فعلته زوجة أبيها مع سوسن حينما رغبت في استمرار التواصل معها
- وعد يا وعد
فاقت وعد من شرودها وهتفت بهدوء: معاكي
- سرحتي في إيه؟
- افتكرت اللي عملته منيرة في طنط سوسن
- هي عملت إيه؟
تساءل حسام فلوت حنين شفتيها بضجر وهتفت بعيظ: طردتها لما جت تطمن على وعد وقالت مش ناقصة قرف
- والله ما في قرف في الدنيا غيرها
- ربنا ينتقم منها
قالتها وعد بصوت غلفه الألم ثم أمسكت هاتفها وبحثت عن رقم سوسن، ولم تمض سوى دقيقة واحدة حتى وجدت الرقم وضغطت زر الاتصال.... في ذلك الوقت كانت سوسن تصلي فرضها ولم تستطع الإيجاب فمطت وعد شفتيها بضجر وهتفت بحزن
- ما ردتش عليا، وبصراحة ليها حق من يوم ما نور ماتت وأنا مسألتش عنها و
توقفت وعد عن إكمال كلماتها حينما صدع صوت رنين هاتفها، وتسارعت نبضات قلبها حينما وجدت المتصل "سوسن"... أغمضت عينيها ودعت الله أن تمد لها سوسن يد العون ثم ضغطت زر الإيجاب وتابعت بهدوء
- أنا عارفه أني مقصرة في حقك بس غصب عني
- عارفه يا حبيبتي، عامله إيه؟
- مش كويسة خالص
- مالك يا وعد؟!!
- ممكن أجيلك دلوقتي؟
- طبعاً، تعالي وما تتأخريش هستناكي
- حاضر
أنهت وعد المكالمة وتنفست بعمق وهي تردد بصوت خفيض: الحمد لله
شعر حسام بالسعادة حينما رأى ابتسامة خفيفة ترتسم على ثغر وعد ودعا الله أن تدوم ابتسامتها إلى ما لا نهاية.... وما هي إلا دقائق حتى فرغوا من تناول الطعام وغادروا المكان متجهين إلى شقة سوسن وبداخلهم أمل جديد
*********
في ذات الوقت وصل أمجد إلى مقر الطب الشرعي ليباشر عمله، لكنه قبل أن يدلف إلى الداخل صدع صوت رنين هاتفه فأجاب المكالمة قائلاً
- أنا نهاري فل أكيييييد
- يا بكاش
- وحشاني جداً جداً جداً
- لو وحشاك كنت جيت تشوفني، مختفي فين بقالك أسبوع؟
زفر أمجد بضيق وهتف بغيظ: زميلي أتجوز وواخد أجازة والباقين سافروا مؤتمر والجثث كلها عليا
قال كلماته الأخيرة بطريقة تمثيلية جعلت سلوى تضحك بأعلى طبقات صوتها بينما مط أمجد شفتيه بضجر وهتف بغيظ
- إضحكي إضحكي
- أنت مصيبة ماشية في الأرض، الله يكون في عون الجثث يا دكتور المشرحة، اوعى تكون بتقولهم نكت وأنت بتشرح
- ربنا يسامحك
قالها بغضب وصوت غلفه الغيظ فأسرت سلوى ضحكتها حتى لا تغضبه أكثر وهتفت بجدية مصطنعة
- هستناك على الغداء وهعملك كل الأكل اللي بتحبه
- هو ده الكلام ولا بلاش
- ما تتأخرش
- أنا مقدرش أتأخر عليكي يا قلبي، ربنا يخليكي ليا
- ويخليك ليا يا حبيبي
بعد مرور عدة دقائق من الثرثرة أنهى أمجد المكالمة ودلف إلى الداخل ليتابع عمله كطبيب شرعي بينما تركت سلوى غرفتها واتجهت صوب المطبخ لتعد له الطعام الذي يعشقه كما وعدته
ممنوع النقل أو الاقتباس، الرواية مسجلة بالملكية الفكرية التابعة لوزارة الثقافة.. دائرة حقوق المؤلف